زمان القيظ

الحضورُ  وهو عادةٌ ورثها الخلفُ عن السّلفِ والحضور من الظواهر المعروفة والتي مازالت مستمرة  يمارسها الناس حتى هذا اليوم ، تشهدها المناطق الساحلية في فضل الصيف ؛ حيث ينتقل السّكان من تلك الأماكن بسبب التغيرات الموسمية إلى أماكن أكثر أمنا واستقرارا ، وعندما تطلق الكوس أجنحتها من مسافات قصيّة ثمَّ يهيجُ البحرُ مزمجرا فيحين الرحيُ و تتطايرُ القلوبُ والعقولُ في شوقٍ عارمٍ وتتهافتُ الذكرياتُ الحالمةُ يوقظُها ما تبقى من تخيلاتِ الرَّطبِ والليمونِ والحرِّ والفلج والعريش و رموز لا تحصى اختزنتها الذاكرة .  




تُنوَّخ الجمالُ وتشد الحمولةُ على ظهورها وقبل الظَّعنِ تعمُّ البيوتَ البسيطةَ حالةٌ من نشاطٍ واستنفارٍ ؛  فتقسم الأعمالُ لتجميع ما يمكن  جمعه و حمله من ضروريات الحياة : فالأمُّ تضعُ الثياب والعطور والأمشاط في والبنات يتسابقن إلى المطابخ لجمع الأواني وترتيبها وعند الانتهاء تربط بالحبال أو تشك بالمسال لترفع على ظهور الجمال وتسمى هذه العملية بالتخشير  ، بينما يعالج الرجال العوال المجفف وهو العنصر الأساسي لعمل السحناة وهي وجبة عمانية بحتة ابتكرها العمانيون في زمن الشَّفَّة ؛ حيث أن البدو أحضروا العوال من المناطق البحرية مجففا والحضر أحضروا الليمون والبصل وتم تحضير السّحناة بنكهة عمانية بحتة ممزوجة بسمن الأبقارِ أو المَعَزِ  وتكدس على الأرز الأبيض وهي في غاية اللذة ، فلم يحتاجوا إلى سؤال الناس شيئا من الطعام ، لأن الله مَنَّ عليهم بخيرهم من بحرهم وخفهم وظلفهم وهي دعوة تهللت من لسان الصدق ومنهج العدل هي دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لمازن بن غضوبة  ، وقد يتبادر إلى الذهن معنى كلمة الشَّفَّة ،  و هل لها أصول في المعاجم العربية ؟ وأنا في  الحقيقة أستخدمها كاستعارة من لهجة الأسلاف وبحثت عنها في المعجم وقد وردت بمعنى  قلة الاستجداء وقلة السؤال فيقال فلان خفيف الشَّفَّة ، ولعل أهلينا في زمن الشّفّة ابتكروا هذه الوصفة  لقلة وجود أصناف الطعام المختلفة في الماضي القديم . ونعود لمواصلة الرحلة ، فحينما تتهيأ تقترب رحلة الصيف يخطط رب الأسرة للانتقال إلى المناطق الداخلية ولاتوجد سيارات في زمن الشفة فيتم التنسيق مع المكاري ( وهو الرجل المالك للجمال التي سيتم الانتقال عليها مقابل مبلغ مالي متفق عليه مسبقا ) ، ويتم في الاتفاق تحديد التاريخ وفق الشهر القمري فإن كان الناس من جزيرة مصيرة يكون لهم مكريان : مكري بحري ومكري بري ) وتتواصل الرحلة الخرافية فينتقلون على الجمال رحلة آسرة و تتماوج على الرمال  قوافل الطريق ، تسير ليلا وترتاح نهارا عند المورد ( شوقب ) أو ( نافي ) أو غيرها ويقال عند الصباح يحمد القوم السرى ، وهكذا يستمرون في سير متواصل تتخلله أغنيات متوازنة متوافقة مع إيقاع أخفاف الإبل ، لتختصر المسافات وتهوّن من العناء . وعند الوصول إلى برزمان والعيون يخرج الحضر لاستقبال البدو في مشاهد معبرة عن معاني الشوق والاحترام وحفاوة الاستقبال التي تترجم في صحون مليئة بالرطب وفناجين من القهوة العمانية الممزوجة بالهيل والزعفران ويتبادلون التحية والسلام والمنشود ( عادة عمانية معروفة ) ، ويقدم البدو بدورهم مطاريق العوال إلى الحضر ويستمرون في المضي قدما حتى تفترق بهم السبل فمنهم من يذهب إلى المضيبي ومنهم من يذهب إلى أدم وهناك رحلات مشابهة في الباطنة وجعلان وصور . ونظرا لأن المناطق الساحلية ذات حظ أوفر من المؤن المستوردة من الخارج عن طريق التجارة البحرية قديما ، لا تنسى البدوية بعض الهدايا التي تجمعها طوال العام من عطور وبخور وثياب من حرير  بريسم ومستلزمات الخياطة مما يستورد من بزٍّ ومنتوجات من الهند والصين وأفريقيا لتحمله كهدايا لصديقاتها في المناطق الحضرية وتقدمه لهن مغلفا بالحب والصدق والعرفان بالجميل ، لتجد أن صديقتها الحضرية  قد جمعت لها باقات من الشورانة والحناء والياس  والتي أقتطفتها من الضواحي وتتبادله معها معتقا بالجمال الروحي النابع من صادق القلوب وهكذا هو المجتمع العماني زاخر بقيم نبيلة تستنبط  من الدين وتغذى  من العادات النبيلة. وبعد الوصول يعد الحضار منازلهم سريعا وهي عبارة عن عريش مصنوع من سعف النخيل وحباله من الليف ويسكنون بعد وضع الأحمال وتأتي عملية الطناء وهي عادة عمانية يقوم فيها الحضري بتأجير الحضّار القادمين بعضا من النخيل لاستخدامها في فترة القيظ ، وبين لهيب الهواء ورمضاء الصيف تلتهب الجباه الصامدة بكبرياء إن القيظ أنشط لديهم من المكوث في المناطق الساحلية المليئة بالأتربة والغبار ، ففي اعتقادهم أن الحر ينشط الدماء ويقوي العظام فيغير ما أضافه البحر من أملاح على أجسادهم طوال العام . 








 وينضج الرطب من نغال وخلاص وخنيزي وخصاب وغيرها من أصناف الرطب العماني المعروف ، وتتطاير روائح الليمون والزيتون ( الجوافة ) والتين ، وتتم عملية سطح التمور لتجفيفها على السميم ( سمة ) وتنقى بعد ذلك لتكنز في جرب وترص لتنقل لاحقا على القوافل عند العودة والتمر مادة غذائية تستخدم عند العودة طوال العام وهي أهم طعام يقدم مع القهوة عند استقبال الضيوف .



أضف تعليق


*

*

*

انتظر إرسال التعليق ...
جميع الحقوق محفوظة الضاد الرقمية © 2022 برمجة وتصميم